قصة الجوع لنجيب محفوظ
قصة الجوع
انتصف الليل ولما يصادف حظ الوجيه محمد عبد القوي غير العبوس، وما انفكت خسارته تنمو وتتضاعف حتى بلغت نيفا وأربعين
جنيهقصة الجوع لنجيب محفوظ انتصف الليل ولما يصادف حظ الوجيه محمد عبد القوي غير العبوس، وما انفكت خسارته تنمو وتتضاعف حتى بلغت نيفا وأربعين جنيها في أقل من ثلاث ساعات، وكان هذا دأبه في أكثر لياليه ، فلم تعد الخسارة تهز أعصابه أو تكرب نفسه. كان يتعاطاها بغير مبالاة بين رشف الكئوس وقذف الدعابات . ثم ينساها بمجرد الانفصال عن المائدة الخضراء.
ولكنه كف تلك الليلة عن اللعب بغير إرادته لخمار دار برأسه، فرغب في تنسم هواء الخريف الرطيب في الخارج ومراودة نشاطه بالمشي والحركة، فنهض معتذرا، وغادر النادي، وكان الطريق كالمقفر والجو لطيفا منعشا، فسرت منه إلى رأسه الساخن الدائر قوة وسكينة، فجد في السير مصفرا صفيرا خافتا وأحيانا مترنما، لغير غاية ، وانحرف إلى الطريق المؤدي إلى قنطرة قصر النيل، وبصر بها في نهايته فانشرح صدره وحث خطاه، فلما بلغها مضى يسير الهويني التماسا لمزيد من الراحة والانتعاش، ولم يكن يقطعها في تلك الساعة إلا السيارات المنطلقة في فترات متقطعة، إلا أنه حين بلغ ثلثها الأخير لاحت منه التفاتة إلى الجانب الأيسر منها فرأى رجلا رث الهيئة في جلباب قذر ينحني متقوسا على سور القنطرة ملقيا برأسه إلى النهر فلم يلق إليه بالا ، ومضى إلى نهاية القنطرة، ولم يجد رغبة للتوغل فيما وراءها فتحول إلى الجانب الأيسر ليعود من حيث أتي، وكان الرجل ما زال في تقوسه واستغراقه إن لم تكن أسكرته نسائم الهواء الرطيب فتسلل النوم إلى جفنيه.
ولما صار منه على بعد قریب رآه يقفز بحركة مباغتة إلى أعلى السور ثم توثب كأنما ليلقى بنفسه إلى النيل، فاندفع نحوه بسرعة جنونية وأدركه في اللحظة الفاصلة، فأمسك بيسراه وجذبه إلى الخلف بشدة فسقط على الإفريز عوضا عن أن يسقط في النهر، وبلغ منه الانفعال وتدافعت أنفاسه وتفرس في وجه الرجل الذي هانت عليه الحياة فرآه يحدجه بنظرة جامدة ووجه مكفهر ، وقد لاح لعينيه هزاله ورثاثته وشدة اصفرار وجهه ، فصاح به: – ماذا كنت فاعلا بنفسك؟ فلم ينبس بكلمة وظل على جموده واكفهراره، وتمالك الوجيه عواطفه فعجب لما يدفع مثل ذلك الرجل إلى الانتحار وهو لا يعلو على الحيوان – والحيوان في العادة لا ينتحر،